فصل: مسألة ما الفرق بين العرافة والكهانة والتنجيم والطرق والعيافة والزجر وهل تشارك العرب في هذه الأشياء أمة أخرى أم لا؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الهوامل والشوامل***


  مسألة سأل سائل عن النظم والنثر وعن مرتبة كل واحد منهما

ومزية أحدهما ونسبة هذا إلى هذا وعن طبقات الناس فيهما فقد قدم الأكثرون النظم على النثر ولم يحتجوا فيه بظاهر القول وأفادوا مع ذلك به وجانبوا خفيات الحقيقة فيه وقدم الأقلون النثر وحاولوا الحجاج فيه‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن النظم والنثر نوعان قسيمان تحت الكلام والكلام جنس لهما‏.‏

وإنما تصح القسمة هكذا‏:‏ الكلام ينقسم إلى المنظوم وغير المنظوم‏.‏

وغير المنظوم ينقسم إلى المسجوع‏.‏

ومثال ذلك مما جرت به عادتك أن تقول‏:‏ الكلام بما هو جنس يجري مجرى قولك الحي‏.‏

فكما أن الحي ينقسم إلى الناطق وغير الناطق‏.‏

ثم إن غير الناطق ينقسم إلى الطائر وغير الطائر‏.‏

ولا تزال تقسمه حتى ينتهي إلى آخر أنواعه‏.‏

ولما كان الناطق والطائر يشتركان في الحي الذي هو جنس لهما ثم ينفصل الناطق عن الطائر بفضل النطق - فكذلك النظم والنثر يشتركان في الكلام الذي هو جنس لهما ثم ينفصل النظم عن النثر بفضل الوزن الذي به صار المنظوم منظوماً‏.‏

ولما كان الوزن حلية زائدة وصورة فاضلة على النثر صار الشعر أفضل من النثر من جهة الوزن‏.‏

فإن اعتبرت المعاني مشتركة بين النظم والنثر‏.‏

وليس من هذه الجهة تميز أحدهما من الآخر بل يكون كل واحد منهما صدقاً مرة وكذباً مرة وصحيحاً مرة وسقيماً أخرى‏.‏

ومثال النظم من الكلام مثال اللحن من النظم فكما أن اللحن يكتسي منه النظم صورة زائدة على ما كان له كذلك صفة النظم الذي يكتسى منه الكلام صورة زائدة على ما كان له‏.‏

هي جوهر نثر فإن ألفته بالنظم صار قلائداً وعقوداً‏.‏

  مسألة لم صار الحظر يثقل على الإنسان

وكذا الأمر إذا ورد أخذ بالمخنق وسد الكظم وقد علمت أن نظام العالم يقتضي الأمر والنهي ولا يتمان إلا بآمر وناه ومأمور ومنهي‏.‏

وهذه أركان ودعائم‏.‏

ولكن ههنا مكتومة بالإشراف عليها يكمل الإنسان فيعرف الملتبس من المتخلص‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن الأمر الذي أومأت إليه والحظر إنما يقعان في جنس الشهوات التي تجمح بالإنسان إلى القبائح وبلزوم الأعمال التي فيها مشقة وتؤدى إلى المصالح‏.‏

ولما كان الإنسان ميله بالطبع إلى تعجل الشهوات غير ناظر في أعقاب يومه وإلى الهويني والراحة في عاجل اليوم دون ما يكسب الراحة طول الدهر - ثقل عليه حظر شهواته والأمر الذي يرد عليه بالأعمال التي فيها مشقة‏.‏

وهذه حال لازمة للإنسان منذ الطفولة فإن أثقل الأشياء عليه منع والديه مأربه وأخذهما إياه بلف الأعمال النافعة ثم إذا كمل صار أثقل الناس عليه طبيبه ومعالجه ونصيحه في المشوره وسلطانه الذي يأخذه بمنافعه ومصالحه‏.‏

وهذه حال الناس المنقادين لشهواتهم المتبعين لأهوائهم‏.‏

وقد يقع فيهم الجيد الطبع الصحيح الروية القوى العزيمة فلا يأتي من الأمور إلا أجملها قامعاً لهواه متحملاً ثقل مئونة ذلك لما ينتظره من حسن العاقبة وإحمادها‏.‏

ومثل هذا قليل بل أقل من القليل وليس إلى أمثاله يوجه الخطاب بالأمر والنهى ولا إياه خوف بالوعد والوعيد وأنذر العذاب الأليم‏.‏

  مسألة ما السبب في أن الخطيب على المنبر وبين السماطين وفي يوم المحفل

- يعتريه من الحصر والتتعتع والخجل في شيء قد حفظه وأتقنه ووثق بحسنه ونقائه أتراه ما الذي يستشعر حتى يضل ذهنه ويعصيه لسانه ويتحير باله ويملك عليه الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن انصراف النفس بالفكر إلى جهة من الجهات يعوقه عن التصرف في غيرها من الجهات ولذلك لا يقدر أحد أن يجمع بين الفكر في مسألة هندسية وأخرى نحوية أو شعرية‏.‏

بل لا يتمكن أحد من تدبير أمر دنيوي وآخر أخروي في حال واحدة‏.‏

ومن تعاطى ذلك فإنما يقطع لكل واحد جزءاً من الزمان وإن قل‏.‏

فأما أن يكون زمان هذا هو بعينه زمان هذا فلا‏.‏

وإنما عرض لنا هذا - معاشر الناس - لأجل التباسنا بالهيولى واستعمال النفس للمادة والآلة‏.‏

والأمر في ذلك واضح بين مشاهد بالضرورة‏.‏

ولما كان الفكر يوم الحفل منصرفاً إلى ما ينصرف إليه من الناس عيب إن وجدوا وتقصير إن حفظوا - اشتغل الإنسان بتخوف هذه الحال وأخذ الحذر منها فكان هذا عائقاً عن الأفعال التي تخص هذا المكان‏.‏

وهذا الاضطراب من النفس هو الذي يجعل الآلات مضطربة حتى تحدث فيها حركات مختلفة على غير نظام أعني التتعتع وما أشبهه وذلك أن مستعمل الآلة إذا اضطرب تبعه اضطراب آلته لا محالة‏.‏

خاصة إذا كان منه بسبب وضمهما نسب ورجعا إلى حال جامعة ومذهب مشترك وما الفاصل من المنظور إليه إلى الناظر وما الواصل من المتكلم إلى السامع حتى يغضي طرفه حياله ويسد أذنه‏.‏

هذا شيء قد شاهدته بل قد دفعت إليه‏.‏

وإنما التأمت المسألة بالحادثة لأن التعجب تمكن والاستطراف ثبت إلى أن وقف على السبب الجالب والأمر الغالب‏.‏

وعند ظهور العلة يثبت الحكم وبانكشاف الغطاء ينقطع ولوع المستكشف‏.‏

فسبحان من له هذه اللطائف المطوية وهذه الخبيئات الملوية عن العقول الزكية والأذهان الذكية‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ ينبغي أن نعيد ذكر السبب في الحياء والخجل ذكراً مجملاً فنقول‏:‏ إن الحياء هو انحصار يلحق الناس خوفاً من قبيح‏.‏

فإذا كان هذا هو الحياء فإن الإنسان إذا كان بسبب من المتكلم لحق نفسه من العارض قريب مما يلحق المتكلم لأنه يخشي من وقوع أمر قبيح منه أو كلام يعاب عليه مثل ما يخشاه المتكلم‏.‏

وقد كنا أومأنا فيما سبق إلى أن النفس واحدة وإنما تتكثر بالمواد‏.‏

ولولا ذلك لما كان لأحد سبيل إلى أن ينقل ما في نفسه إلى نفس غيره بالإفهام وفيما مر من ذلك فيما مضى كفاية لأن ما يحتاج إليه ههنا هو أن يظهر أن القبيح الذي يختص بزيد يعم عمراً أيضاً من جهة وإن كان عمرو غريباً من زيد فكيف إذا ضمه وإياه سبب أو نسب‏.‏

وليس يحتاج أن ينفصل من المنظور إلى الناظر شيء لأن أفعال النفس وآثارها لا تكون على هذه الطريقة الحسية والجسمية لا سيما واستشعار كل واحد من المتكلم والسامع استشعار واحد في تخوف القبيح والحذر من الزلل والخطأ فإن هذا الاستشعار يعرض منه الحياء والخجل كما قلنا‏.‏

ومتى غلب على ظن السامع أن المتكلم يسيء ويزيغ صار خوفه وحذره يقيناً أو شبيهاً باليقين فعظم العارض له من الحياء حتى يلحقه ما ذكرت من الحركة المضطربة‏.‏

وكذلك حال المتكلم إذا لم يثق بنفسه أو لم تكن له عادة بالوقوف في ذلك المقام والكلام فيه فإن حذره يشتد وحياءه يكثر وبزيادة الحياء يزداد الاضطراب ويمتنع القدر من الكلام الذي تسمح به النفس عند توفر قوتها واجتماع بالها وسكون جأشها وهدوء حركاتها‏.‏

المسألة ما علة كراهية النفس الحديث المعاد وما سبب ثقل إعادة الحديث على المستعاد وليس فيه في الحال الثانية إلا ما فيه في الحالة الأولى فإن كان فارق بينهما فما هو‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن النفس تأخذ من الأخبار المستطرفة والأحاديث الغريبة عندها شبيهاً بما يأخذه من أقواته وما حصلته النفس من المعارف والعلوم فإعادته عليها بمنزلة الغذاء من الجسم الذي اكتفى منه‏.‏

فإذا أعيد عليه غذاء هو الأول ثقل عليه واستعفى منه‏.‏

فكذلك حال النفس في المعارف‏.‏

وينبغي أن تؤخذ هذه الأمثلة التي أوردتها عن الأجسام على ما ليس بالجسم أخذاً لطيفاً لا يحصل منه ظل في تلك الأمور الشريفة فيفسد على الإنسان تخيله ويذهب وهمه منه مذهباً غير لائق بالمعنى المقصود‏.‏

وأرجو أن يكفي الناظر في المسائل ما حددته فإني إنما أجبت من له قدم في هذه العلوم وتحرم بها‏.‏

وينبغي لمن لم تكن له هذه الرتبة ان يرتاض أولاً بهذه العلوم ارتياضاً جيداً ثم ينظر في هذه الأجوبة إن شاء الله‏.‏

تعالى - بما يأباه العقل ويخالفه ويكرهه ولا يجيزه كذبح الحيوانات وكإيجاب الدية على العاقلة‏.‏

وقد جهزت المسألة إليك ووجهت أملي في الجواب عنها نحوك‏.‏

وأنت المدخر لغريب العلم ومكنون الحكمة‏.‏

فإن تفضلت بالجواب وإلا عرضت عليك ما قلت للسائل ورويت ما دار بيني وبين المجادل فإن كان سديداً عرفتنيه وإن كان ضعيفاً نصحتني فيه‏.‏

فالعلم بعيد الساحل عميق الغور شديد الموج‏.‏

ولولا فضل الله العظيم على هذا الخلق الضعيف لما وقف على شيء ولا نظر في شيء لكنه لطيف بعباده رءوف يبتدىء بالنعمة قبل المسألة وبالخير قبل التعرض‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ ليس يجوز أن ترد الشريعة من قبل الله - تعالى - بما يأباه العقل ويخالفه ولكن الشاك في هذه المواضع لا يعرف شرائط العقل وما يأباه‏.‏

فهو - أبداً - يخلطه بالعادات ويظن أن تأبى الطباع من شيء هو مخالفة العقل‏.‏

وقد سمعت كثيراً من الناس يتشككون بهذه الشكوك وحضرت خصوماتهم وجدالهم فلم يتعدوا ما ذكرته‏.‏

وينبغي أن نوطىء للجواب توطئة من كلام نبين فيه الفرق بين ما يأباه العقل وبين ما يأباه الطبع ويتكرهه الإنسان بالعادة فنقول‏:‏ إن العقل إذا أبى شيئاً فهو أبدى الإباء له لا يجوز أن يتغير في وقت ولا يصير بغير تلك الحال‏.‏

وهكذا جميع ما يستحسنه العقل أو يستقبحه‏.‏

وبالجملة فإن جميع قضايا العقل هي أبدية واجبة على حال واحدة أزلية لا يجوز أن يتغير عن حاله‏.‏

وهذا أمر مسلم غير مدفوع ولا مشكوك فيه‏.‏

فاما أمر الطبع والعادة فقد يتغير بتغير الأحوال والأسباب والزمان والعادات‏.‏

وأعني بقولي الطبع طبع الحيوان والإنسان لا الطبيعة المطلقة الأولى‏.‏

وذاك أن اسم الطبيعة مشترك‏.‏

فقد بينا ما أردنا بالطبع‏.‏

وإذا كان ذلك بيناً من الأمثلة والأحوال المقر فإنا نعود فنقول‏:‏ إذا ذبح الحيوان ليس من الأشياء التي يأباها العقل وينكرها بل هو من القبيل الآخر أعني من الأشياء التي يأباها بعض الطباع بالعادة‏.‏

ونحن نشاهد من يأبى قتل الحيوان لأن عادته لم تجر به ومتى جرت به عادته هان عليه وسهل فعله وجرى مجرى سائر الأفعال عند أصحابه‏.‏

وأنت ترى القصاب والجزار بل مشاهدي الحروب يهون عليهم ما يصعب على غيرهم‏.‏

وأيضاً فإن الحيوان الذي يألم بمرض لا يعرف علاجه إذا أشفق عليه العاقل وكره مقاساته لما لا علاج له يأمر بذبحه ليكون خلاصة في الموت الوحي‏.‏

أفترى العقل الذي أمر بذبحه يستحسن ما كان مستقبحاً له أم تغير فعله الأبدي بطارىء طرأ وحادث حدث مع اعترافنا بأن العقل ليس من شأنه ذلك لأنه جوهر أبدي وجوهره هو حكمه ولذلك هو أبدي الحكم‏.‏

فإننا لا نظن بأن حكم العقل على العدد والهندسة وسائر البراهين الطبيعية تغير عما كان عليه منذ عشرة آلاف سنة أو يتغير إلى مثل هذا الزمان أو أكثر أو أقل بل نثق بأنه أبداً كان ويكون على وتيرة واحدة‏.‏

فأما الأمور التي تستقبح مرة وتستحسن أخرى وتتأبى تارة وتتقبل ثانية فإنما لها أسباب أخر غير العقل المجرد‏.‏

فإن السياسات أبداً يعترض فيها ذلك وأمراض الأبدان والأمور غير الأبدية كلها - أبداً - معرضة للتغير ويتغير الحكم بتغيرها بل لا يجوز أن تبقى لازمة بحال واحدة لأنها أبداً في السيلان والدثور للزوم الحركة إياها‏.‏

والحركة نفسها هي تغير الأشياء المتحركة إذ كلها متغيرة‏.‏

وكذلك الزمان وما تعلق به هو يتغير بتغيره‏.‏

وما يعرض للإنسان من كراهية ذبح الحيوان إنما هو لمشاركته إياه في الحيوانية ويخطر بباله عند مكروه ينال البهيمة أن مثل ذلك المكروه سيناله لمشاركته إياه في الحيوانية فيحدث له من النفور عند هذا الخاطر ما يحدث لكل حيوان إذا تصور مكروهاً حتى إذا أنس بذلك الفعل زال عنه ذلك النفور وصار الذبح والتقصيب يجري عنه مجرى برى القلم ونحت الخشب وكذلك حال من شاهد الحروب - وأنس بها عند العراء المستوحش منها‏.‏

وههنا حال أخرى أبين مما ذكرته وهي أن العقل قد حسن عند الإنسان إذا حصل في مكروه غليظ من الأعداء كمن يرى في أهله وولده ما لا يطيق مشاهدته - أن يبذل نفسه للقتل ويجتاز الموت الجميل على الحياة القبيحة‏.‏

وهذه الرخصة من العقل مستمرة في كل حال يقبح بالإنسان ان يعيش فيها‏.‏

أعني أن يختار الموت عليها‏.‏

فالجواب إذن عن أمثال هذه المسائل أن يقال‏:‏ إن العقل لا يستحسن ولا يستقبح شيئاً منها إلا بقرائن وشرائط‏.‏

فأما هذا الفعل بعينه وحده فلا يتأباه ولا يتقبله أعني لا يحكم فيه بحكم أبدي أولى كأحكامه التي عرفناها وأحطنا بها‏.‏

وهكذا الحال في الأشياء التي تعرف بالخير والشر فإن كثيراً من الجهال يعتقد أن الأشياء كلها منقسمة إلى هذين‏.‏

وليس الأمر كذلك‏.‏

فإن اليسار والتمكن من الدنيا ليس بخير ولا شر حتى ينظر في ماذا يستعمله صاحبه‏:‏ فإن استعمل يساره وماله في الأشياء التي هي خير فإن يساره خير وإن استعمله في الشر فهو شر‏.‏

وكذلك كل شيء كان صالحاً للشيء ولضده فليس يطلق عليه أنه واحد منهما بل الأولى أن يقال‏:‏ إنه يصلح لهما جميعاً كالآلات التي يصلح بها ويفسد فإن الآلات لا توصف بأنها مصلحة ولا مفسدة ولا تسمى أيضاً بالصلاح والفساد إلا بعد أن تستعمل‏.‏

فهكذا يجب أن يقال في الأمور التي تستحسن أو تستقبح في أحوال وبحسب عادات إنها ليست حسنة عند العقل ولا قبيحة على الإطلاق حتى يتبين واضعها ومستعملها وزمانها فإن القصاص إذا وقع عليه هذا الاسم حس لما فيه من حياة الناس وإذا وقع عليه اسم القتل بغير هذا الاعتبار صار قبيحاً لما فيه من تلف الحيوان‏.‏

وقد خرجت في هذه المسألة عن عادتي في هذا الكتاب من الاختصار والإيماء إلى النكت لكثرة ما أسمعه من جهال المانوية ومن اغتر بأمثلتهم وجنح إلى أقاويلهم مصدقاً بالخديعة التي خلصوا بها إلى قلوب الأغمار من الناس حتى عدلوا بهم عن الشرائع الصحيحة‏.‏

ولو أن واحداً منهم سئل عن القبيح والحس مطلقاً أو مقيداً لما عرفه إلا على سبيل الاختلاط‏.‏

على انه لا يمتنع كل عاقل منهم إذا رأى حيواناً يضطرب ويطول ذماؤه في قروح خارجه به أو قولنج قد يئس من برئه أو مهواه تردى فيها فتكسر منها - أن يشير بذبحه وإن لم يتول ذلك بنفسه‏.‏

ولعل ضروباً من المكاره تلحق الحيوان إذا طال عمره ليست بدون ما ذكرناه خلاصه منها بالموت الوحي لو فطن له‏.‏

وإنما لا يتولى الذبح بنفسه ويشير على غيره به لأجل العادة والاستشعار الذي لزمه‏.‏

ولو أن هذا العاقل منهم بلى بسلطان يعذبه عذاباً يريد به ان يأتي على نفسه في زمان طويل ليذيقه العذاب لبادر إلى الحكم بما يأباه قبل وتناول سم ساعة أو سأل أن يراح من الحياة‏.‏

فكيف يكون المكروه مختاراً محبوباً والمستقبح مستحسناً من جهة العقل لولا ما ذكرناه‏.‏

فقد ظهر الجواب عن هذه المسألة وتبين أن كل ما كان قبيحاً في وقت دون وقت لا يجوز ان ينسب إلى العقل المجرد وإلى أحكامه الأولية الأزلية‏.‏

بل لا يقال فيه إنه قبيح ولا حسن على الإطلاق‏.‏

وإنما ينسب إلى الطباع والعادات ثم يقال قبيح بحسب كيت وكيت وحسن لكذا وكذا مقيداً غير مطلق ولا منسوب إلى العقل المجرد‏.‏

فأما الدية التي على العاقلة فقد تكلم الناس في وجه السياسة بها‏.‏

ووجه حسنها بين لا سيما والمسألة المتقدمة قد أوضحتها وبينت وجه الصواب في أمثالها من الشبه‏.‏

  مسألة قال أحمد بن عبد الوهاب

في جواب أبي عثمان الجاحظ عن التربيع والتدوير‏:‏ لا يقدر أحد أن يكذب كذباً لا صدق فيه من جهة من الجهات وهو يقدر أن يصدق صدقاً لا كذب فيه من جهة من الجهات‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن كان الصدق والكذب إنما يقعان في الخبر خاصة والخبر الذي يسميه المنطقيون‏:‏ القول الجازم وهو الذي تقع فيه الفوائد‏.‏

وكانت أقسامه هي التي تكلم عليها أهل هذه الصناعة - فإن الخبر قد يكون كذباً محضاً كما يكون صدقاً محضاً‏.‏

وإن كان ذهب أحمد بن عبد الوهاب في الصدق والكذب إلى غير ما عرفه هؤلاء وتكلموا عليه فإني غير محصل له ولا متكلم عليه‏.‏

  مسألة ذكرت في هذه المسألة مسألة ذكرها أبو زيد البلخي حاكياً

ومر أيضاً بجوابها راوياً قال أبو زيد الفلسفي البلخي‏:‏ قيل لبعض الحكماء ما معنى سكون النفس الفاضلة إلى الصدق ونفورها عن الكذب فقال‏:‏ العلة في ذلك كيت وكيت‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إنما تسكن النفس الفاضلة إلى ما كان من الخبر مقبولاً إما بوجوب مما اقتضاه دليل من برهان أو إقناع قوى وما لم يكن كذلك فإن النفس - لا محالة - ترده وتأباه‏.‏

وأظن صاحب المسألة إنما أراد من هذه المسألة‏:‏ كيف صارت النفس تسكن إلى الحق بالقول المرسل فالجواب‏:‏ أن النفس إنما تتحرك حركتها الخاصة بها - أعني إجالة الروية - طلباً للحق لتصيبه‏.‏

ولولا طلبها لما تحركت ولولا حركتها هذه لما كانت حية تفيد الجسم أيضاً الحياة‏.‏

فالنفس بهذه الحركة الدائمة الذاتية حية‏.‏

بل الحياة هي هذه الحركة من النفس وهي ذاتية لها كما قلنا‏.‏

وأنت تعرف ذلك قريباً من انك لا تقدر ان تعطلها من الروية والفكر لحظة واحدة لأنها - أبداً - إما مروية جائلة في المحسوس أو مروية جائلة في المعقول بلا فتور أبداً‏.‏

وكذلك هي دائمة الحركة‏.‏

وهذه الحركة إنما هي تلقاء أمر ما‏.‏

أعني به إصابة الحق فإذا أصابته سكنت من ذلك الوجه‏.‏

ولا تزال تتحرك حتى تصيب الحق من الوجوه التي تمكن إصابته منها‏.‏

فإذا أصابته سكنت لأن غاية كل متحرك أن يسكن عند بلوغه الغاية التي تحرك إليها‏.‏

ولعلك تقف من هذا الإيماء على غور بعيداً جداً‏.‏

أعانك الله - تعالى - عليه بلطفه‏.‏

لم صار الحيوان يتولد في النبات ولا يتولد النبات في الحيوان أي قد تتولد الدودة في الشجرة ولا تنبت شجرة في حيوان‏.‏

فلم لم يجب‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن الحيوان يحتاج في وجوده إلى وجود النبات والنبات لا يحتاج في وجود إلى وجود الحيوان‏.‏

والسبب في ذلك أن الحيوان أكثر تركيباً من النبات لأنه مركب منه ومن جواهر أخر أعني النفس الحيوانية ولذلك يكون الحيوان في أول تكونه نباتاً ثم تحصل من بعد حركة الحيوان‏.‏

وحصول أثر النفس في الإنسان إنما يكون بعد أن تستتم في الرحم صورة النبات‏.‏

ويكون استمداده الغذاء به هناك بعروق متصلة برحم أمه شبيهة بعروق النبات حتى إذا استكمل أيضاً صورة الحيوان وحصلت له النفس الحيوانية تقطعت تلك العروق وهو الطلق الذي يلحق الأم ويحرك الولد للخروج‏.‏

فإذا خرج وتنفس في الهواء فتح فمه واغتذى به‏.‏

ولا يزال تكمل فيه صورة الحيوان إلى أن يقبل أثر النفس الناطقة ثم يكمل بها ويصير إنساناً بقدرة الله - تعالى - ولطف حكمته - جل اسمه - فالنبات - كما ذكرنا - أبسط وأقدم أعني أنه لا يحتاج في وجوده إلى وجود الحيوان‏.‏

فهو يكتفي بمادته من الأرض والهواء والماء والحرارة التي تأتيه من الشمس حتى يتم ويحصل وجوده‏.‏

فأما الحيوان فلا يكتفي بتلك الأشياء حتى تنضاف إليها مادة أخرى تغذوه إذ كان لا يكتفي بالبسائط من الماء والأرض والهواء ويحتاج إلى النبات حتى يغذوه ويكمل وجوده ويحفظ عليه قوامه‏.‏

فإذا كان وجوده وقوامه بالنبات جاز أن يتولد فيه‏.‏

ولما كان وجود النبات يتم بغيره ولا يحتاج إليه لم يتولد فيه‏.‏

ولو تولد النبات في الحيوان - مع أنه لا يغذوه ولا يحتاج إليه والطبيعة لا تفعل شيئاً باطلاً ولا لغواً - لأفسد الحيوان وفسد هو في ذاته‏:‏ أما إفساده الحيوان فلحاجته إلى ما يصرف فيه عروقه التي يمتص بها مادته التي تحفظ عليه ذاته وتعوضه مما يتحلل منه ومتى ضروب عروقه في بدن الحيوان تفرق اتصاله وفي تفرق اتصال بدن الحي هلاكه‏.‏

وأما هلاكه في نفسه وفساده فلأنه لا يجد الماء البسيط والأرض البسيطة والهواء الذي منه قوامه ومادته فإن الحيوان لا توجد فيه هذه البسائط بالفعل‏.‏

  مسألة ما سبب تساوي الناس في طلب الكيمياء

حتى إنك لتجد الغني في غناه والمتوسط في توسطه والفقير في فقره على شيمة واحدة وما هو أولاً وهل له حقيقة فقد طال خوض الخائضين فيه وكثر كلام الناس عليه واصطرع الحق والباطل والخطأ والصواب والإحالة فيه‏.‏

فكأن الذي يثبته غير متحقق به والذي يدفعه غير ساكن إلى دفعه وإبطاله‏.‏

هذا وقد تمت من الناس به حيل على الناس‏.‏

ومتى وقفت على هذه المسألة وقفت من الحقائق على غيب شريف ومعنى لطيف‏.‏

وهل ما يعزى إلى جابر بن حيان حق ولم يسند لخالد بن يزيد أصل وهل يسلم مثل هذا النوع في الموضوع المختلق والمفتعل المخترق وإذا اشتبه الأمر هذا الاشتباه كيف نخلص إلى ما يرفع الريب ويؤيد اليقين فقد رأيت ورأينا ناساً اختلفت بهم أحوال وتقلبت عليهم أمور بتصديق هذا الباب وتكذيبه‏.‏

وأطرف ما رأى فيه حلاوة الحديث وخلا به المتحدث بذكره وميل النفوس إليه حتى إن المكذب ليفرغ له باله ويصغي أذنه ويخلي ذهنه من غير أن يحلى بطائل أو يحظى بنائل‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ أما سبب طلب الناس الكيمياء فظاهر بين وهو أنهم حريصون على جميع المتع والشهوات المختلفة في المأكل والمشرب والمنكح والنزه التي تقتسم بين الحواس‏.‏

ومحبة الاستكثار والاستبداد والنهم على الجمع والادخار شيء في الطبيعة‏.‏

وليس يوصل إلى جميع ذلك إلا بالذهب والفضة لأنهما بإزاء جميع المآرب على اختلافها‏.‏

وكل إنسان يعلم أنه متى حصلهما أو واحداً منهما فقد حصل جميع المآرب على كثرتها متى هم بها وأرادها‏.‏

ومع ذلك فهو يعدها ذخراً لولده ولأوقات شدته التي تلحقه من فجائع الدنيا ومحنها‏.‏

فبهذين الحجرين يتوصل إلى جميع ما ذكرناه ويدفع جميع الشر والمحن أيضاً بهما‏.‏

فهذا سبب طلب الناس لهما وحرصهم عليهما‏.‏

وليس يوصل إليهما إلا بالمخاطرات الكثيرة وركوب الأهوال وتجشم الأعمال الصعبة وغير ذلك‏.‏

ثم هما معرضان للآفات والمتسلطين وأهل العيث وهما من هذه الجهة - إن صحت - أسهل شيء وأهونه‏.‏

وإذا بحثنا عن هل هو وجدنا الأمر فيه مشكلاً يحتاج فيه إلى أخذ مقدمات كثيرة طبيعية وصناعية‏.‏

وينبغي أن نورد شكوك الناس في تلك المقدمات واحتياج من يروم حلها من مثبتي الصناعة فقد أكثروا في ذلك‏.‏

ثم نروم نحن النظر فيها‏.‏

وقد اختلفت المتقدمون من الفلاسفة في ذلك والمتأخرون‏.‏

وآخر من تكلم على بطلان الكيمياء وإبطال دعاوي أصحابها يوسف بن إسحاق الكندي وكتابه مشهور في ذلك‏.‏

ورد عليه محمد بن زكريا الرزي وكتابه معروف‏.‏

ثم قد شاهدنا في أهل عصرنا جماعة يثبتون هذه الصناعة والأكثرون يبطلونها‏.‏

فأما المتكلمون وطبقاتهم من أصناف الناس فمجمعون على إبطالها لأنهم يزعمون أن في ذلك إبطال معجزات الأنبياء - صلوات الله عليهم - إذ كان ما يدعونه قلب الأعيان وهو لا يصح عندهم إلا على يد نبي حسب‏.‏

وإن الله - عز وجل - هو القادر على قلب الأعيان دون مخلوقية‏.‏

ولكل حجج وسننظر فيها نظراً شافياً ونورد أقاويل الجميع ويكون بحثنا عن ذلك بحث من قصده تعرف الحق دون الثمرة المرجوة من الكيمياء فإن هذا هو غاية من يتفلسف في نظره وبحثه ولا نبالي بعد ذلك صح أم بطل لئلا تدعونا محبة صحته ورجاؤنا إلى إثباته بخديعة النفس للهوى أو نفيه على طريق العصبية‏.‏

وفي هذا النظر طول لا يحتمله هذا الكتاب مع ما شرطنا فيه من الإيجاز ولكن سنفرد له مقالة كما فعلنا ذلك في مسألة العدل لما طال الكلام فيها أدنى طول‏.‏

وإذا فعلنا هذا في المقالة التي وعدنا بها نظرنا‏:‏ فإن صحت لنا هليته أتبعناها بالنظر في المائية وإن بطل الأول بطل الثاني لا محالة‏.‏

  مسألة قال أحمد بن عبد الوهاب في جواب التربيع والتدوير لأبي عثمان الجاحظ

ما الفرق بين المستبهم والمستغلق وهذا بين الجواب ولكني سقته ههنا لكيت وكيت‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ المستبهم من الأمور مرتبة زائدة على المستغلق يدلك على ذلك الاشتقاق فإن الاشتقاق ملائم للمعاني موافق لها لأن صاحبه إنما يشتق لكل وليس يظن هذا بالميز منا فكيف بواضع اللغة‏.‏

ولما كان الغلق إنما يكون للباب وما أغلق منه يرجى فتحه كذلك يكون حال ما شبه له واشتق له اسم منه أو تصريف‏.‏

وأما المستبهم فلا يقال في الباب أبهمته إلا إذا تجاوزت حد الغلق إلى السد وما يجري مجراه فالطمع فيه أقل‏.‏

فهذه حال المسائل والأمور المستغلقة المستبهمة تشبيهاً بالأبواب التي ذكرنا أحوالها‏.‏

  مسألة حضرت مجلساً لبعض الرؤساء

فتدافع الحديث بأهله على جده وهزله فتحدى بعضهم الحاضرين وقال‏:‏ والله ما أدري ما الذي سوغ للفقهاء أن يقول بعضهم في فرج واحد‏:‏ هو حرام ويقول الآخر فيه بعينه‏:‏ هو حلال‏.‏

والفرج فرج وكذلك المال مال‏.‏

نعم وكذلك في النفس وما بعدها‏:‏ كلام‏:‏ هذا يوجب قتل هذا وصاحبه يمنع من قتله‏.‏

ويختلفون هذا الاختلاف الموحش ويتحكمون التحكم القبيح ويتبعون الهوى والشهوة ويتسعون في طريق التأويل‏.‏

هذا وهم يزعمون أن الله - تعالى - قد بين الأحكام ونصب الأعلام وأفرد الخاص من العام ولم يترك رطباً ولا يابساً إلا أودع كتابه وضمن خطابه‏.‏

وهذه مسألة ليس يجب أن يكون مكانها في هذه الرسالة لأنها ترد على الفقهاء أو على المتكلمين الناصرين للدين‏.‏

لكني أحببت أن يكون في هذا الكتاب بعض ما يدل على أصول الشريعة‏.‏

وإن كان جل ما فيه منزوعاً من الطبيعة ومأخوذاً من علية الفلاسفة وأشياخ التجربة وذوى الفضل من كل جنس ونحلة‏.‏

وعلى الله - تعالى - بلوغ الإرادة والسلامة من طعن الحسدة‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ أما قول الفقهاء‏:‏ إن الله - تعالى - بين الأحكام ونصب الأعلام ولم يترك رطباً ولا يابساً إلا في كتاب مبين - فكلام في غاية الصدق ونهاية الصحة‏.‏

وكيف لا يكون كذلك وأنت لا تقدر أن تأتي بحكم لا أصل له من القرآن من تأويل يرجع إليه أو نص ظاهر يقطع عليه ثم لا يخلو مع ذلك من إنباء بغيب وإخبار عما سلف من القرون ومثل لما نوعد به وإشارة إلى ما ننقلب إليه وتنبيه على ما نعمل به من سياسة دنيا ومصلحة فأما الذي سوغ للفقهاء أن يقولوا في شيء واحد إنه حلال وحرام فلأن ذلك الشيء ترك واجتهاد الناس فيه لمصلحة أخرى تتعلق على هذا الوجه بالناس وذاك أن الاجتهاد لا يكون في الأحكام متساوياً أعني أنه لا يؤدي إلى أمر واحد كما يكون ذلك في غير الأحكام من الأمور الواجبة‏.‏

وبيان هذا أن كل من اجتهد في إصابة الحق في أن الله - تعالى - واحد فطريقه واحد وهو - لا محالة - يجده إذا وفي النظر حقه فإن عدل عن النظر الصحيح ضل وتاه ولم يجد مطلوبه واستحق الإرشاد أو العقوبة إن عاند‏.‏

وليس كذلك الإجتهاد في الأحكام لأن بعض الأحكام يتغير بحسب الزمان وبحسب العادة وعلى قدر مصالح الناس لأن الأحكام موضوعة على العدل الوضعي‏.‏

وربما كانت المصلحة اليوم في شيء وغداً في شيء آخر وكانت لزيد مصلحة ولعمر مفسدة‏.‏

وعلى أن الاجتهاد الذي يجري مجرى التعبد واختيار الطاعة أو لعموم المصلحة في النظر والإجتهاد نفسه لا في الأمر المطلوب - ليس يضر فيه الخطأ بعد أن يقع فيه الإجتهاد موقعه مثال ذلك أن المراد من ضرب الكرة بالصولجان إنما هو الرياضة بالحركة فليس يضر أن يخطىء الكرة ولا ينفع أن يصيبها وإن كان الحكم قد أمر بالضرب والإصابة لأن غرضه كان في ذلك وكذلك إن دفن حكيم في برية دفيناً وقال الناس‏:‏ اطلبوه فمن جده فله كذا‏.‏

وكان غرضه في ذلك أن يجتهد الناس مقادير اجتهادهم ليكون ذلك الطلب عائداً لهم بمنفعة أخرى غير وجود الدفين‏.‏

فإنه لا يضر أيضاً في ذلك أن يخطىء الدفين ولا ينفع أن يصيبه‏.‏

وإنما الفائدة في السعي والطلب وقد حصلت للطائفتين جميعاً‏.‏

أعني الذين وجدوه والذين لم يجدوه‏.‏

وأصناف الاجتهادات والنظر الذي يجري هذا المجرى كثيرة فمن ذلك كثير من مسائل العدد والهندسة وسائر الموضوعات ليس غرض الحكماء فيها وجود الغرض الأقصى من استخراج ثمرتها وإنما مرادهم أن ترتاض النفس بالنظر وتتعود الصبر على الروية والفكر إذا جريا على منهاج صحيح ولتصير النفس ذات ملكة وقنية للفكر الطويل ومفارقة الحواس والأمور الجسمية فإذا حصلت هذه الفائدة فقد وجد الغرض الأقصى من النظر‏.‏

فما كان من الشرع متروكاً غير مبين فهو ما جرى منه هذا المجرى وكان الغرض فيه والمصلحة منه حصول النظر والاجتهاد حسب‏.‏

ثم ما أدى إليه الاختلاف كله صواب وكله حكمة‏.‏

وليس ينبغي أن يتعجب الإنسان من الشيء الواحد أن يكون حلالاً بحسب النظر الشافعي وحراماً بحسب نظر مالك وأبي حنيفة فإن الحلال والحرام في الأحكام والأمور الشرعية ليس يجري مجرى الضدين أو المتناقضين في الأمور الطبيعية وما جرى مجراها لأن تلك لا يستحيل أن يكون الشيء الواحد منها حلالاً وحراماً بحسب حالين أو شخصين أو على ما ضربنا له المثل من ضرب الكرة بالصولجان ووجود دفين الحكيم على الوجه الذي اقتصصناه‏.‏

وإذا كان الأمر كذلك فينبغي للعاقل إذا نظر في شيء من أحكام الشرع وكان صاحب اجتهاد له أن ينظر - أعني أنه يكون عالماً بالقرآن وأحكامه وبالأخبار الصحيحة والسنن المروية والاجتماعات الصحيحة - أن يجتهد في النظر ثم يعمل بجسب اجتهاده ذلك‏.‏

ولغيره إذا كان في مثل مرتبته من المعرفة أن يجتهد ويعمل بما يؤديه إليه اجتهاده وإن كان مخالفاً للأول واثقاً بأن اجتهاده هو المطلوب منه ولا ضرر في الخلاف اللهم إلا أن يكون ذلك الأمر المنظور فيه من غير هذا الضرب الذي حكيناه وضربنا له الأمثال‏.‏

مثل الأصول التي غاية النظر فيها هو إصابة الحق لا غير فإن هذا مطلب آخر وله نظر لا بد أن يؤدي إليه‏.‏

وكما أن الرياضة المطلوبة بصرب الصولجان وإصابة الكرة إنما كانت لأجل الصحة ثم لم يضر بعد حصول الرياضة التي حصلت بها الصحة كيف جرى الأمر في الكرة‏:‏ أصبناها أم أخطأناها فكذلك الحال في الوجه الآخر‏.‏

أعني الذي لا بد من إصابة الحق فيه بعينه فإن مثله مثل الفصد الذي لا بد في طلب الصحة من إصابته بعينه وإخراج الدم دون غيره ولا ينفع منه شيء غيره‏.‏

وإذا حصلت هذين الطريقين من النظر وأعطيتهما قسطهما من التمييز لم يعرض لك العجب فيما حكيته من مسألتك وخرج لك الجواب عنها صحيحاً إن شاء الله‏.‏

  مسألة لم إذا عرفت العامة حال الملك في إيثار اللذة وانهماكه على الشهوة

واسترساله في هوى النفس استهانت به وإن كان سفاكاً للدماء قتالاً للنفوس ظلوماً للناس مزيلاً للنعم وإذا عرفت منه العقل والفضل والجد هابته وجمعت أطرافها منه ما شهادة الحال في هذه المسألة فإن جوابها يشرح علماً فوق قدر المسألة‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن الملك هو صناعة مقومة للمدنية حاملة للناس على مصالحهم من شرائعهم وسياساتهم بالإيثار وبالإكراه وحافظة لمراتب الناس ومعايشهم لتجري على أفضل ما يمكن أن تجري عليه‏.‏

وإذا كانت هذه الصناعة في هذه الرتبة من العلو فينبغي أن يكون صاحبها مقتنياً للفضائل كلها في نفسه فإن من لم يقوم نفسه لم يقوم غيره فإذا تهرب في نفسه بحصول الفضائل له أمكن أن يهذب غيره‏.‏

وحصول فضائل النفس يكون أولاً بالعفة التي هي تقويم القوة الشهوية حتى لا تنازع إلى ما لا ينبغي وتكون حركتها إلى ما يجب وكما يجب وعلى الحال التي تجب‏.‏

وثانياً تقويم القوة الغضبية حتى تعتدل هذه القوة أيضاً في حركتها فيستعملها كما ينبغي وعلى من ينبغي وفي الحال التي تنبغي ويعدلها في طلب الكرامة واحتمال الأذى والصبر على الهوان بوجه وجه والنزاع إلى الكرامة على القدر الذي ينبغي وعلى الشرائط التي وصفت في كتب الأخلاق‏.‏

وإذا اعتدلت هاتان القوتان في الإنسان فكانت حركتهما على ما يجب معتدلة من غير إفراط ولا تقصير - حصلت له العدالة التي هي ثمرة الفضائل كلها‏.‏

وبحصول هذه الفضائل تقوى النفس الناطقة وتستمر للإنسان الصورة الكمالية التي يستحق بها أن يكون سائس مدينة أو مدير بلد‏.‏

ومتى لم تحصل هذه له فينبغي أن يكون مسوساً بغيره مدبراً بمن يقومه ويعدله‏.‏

فأي شيء أقبح من عكس هذه الحال وإجرائها على غير وجهها وطباع الإنسانية تأبى الاعوجاج في الأمور فكيف الانتكاس وقلب الأشياء عن جهاتها فأما قولك‏:‏ وإن كان الملك ذا بطش شديد وعسف كثير بسفك الدماء وانتهاك الحرم فهذه حال تنقصه من شروط الملك ولا تزيد فيه وهو بأن يسقط من عين رعيته أقرب إذ كانت شريطة الملك أن يستعمل هذه الأشياء على ما ينبغي وعلى جميع الشرائط التي قدمت‏.‏

وهل هذا إلا مثل طبيب يدعى أنه يبرى من جميع العلل ويتضمن بسلامة الأبدان على اختلاف أمزجتها وحفظها على اعتدالاتها ثم إذا نظر يوجد مسقاماً مختلف المزاج بسوء التدبير‏.‏

ولما سئل وتصفحت حاله جد من سوء البصيرة وفساد التدبير لنفسه بحيث لا ينتظر منه إصلاح مزاج بدنه فكيف لا يعرض من مثل هذا الضحك والاستهزاء وكيف لا يستهين به من ليس بطبيب ولا يدعى هذه الصناعة إلا أنه على سيرة جميلة في بدنه وسياسة صالحة لنفسه فإن اتفق لهذا المدعي أن يتغلب ويتسلط ويستدعي من الناس أن يتدبروا بتدبيره فكيف لا يزداد الناس من النفور عنه والضحك منه فهذا مثل صحيح مطابق للمثل به‏.‏

فينبغي أن ينظر فيه فإنه كاف فيما سألت عنه إن شاء الله‏.‏

ويحرك رأسه وربما قام وجال ورقص ونعر صرخ وربما عدا وهام‏.‏

وليس هكذا من يخاف فإنه يقشعر ويتقبض ويواري شخصه ويغيب أثره ويخفض صوته ويقل حديثه‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ هذه المسألة قد تقدم الجواب عنها كلامنا في سبب السرور والغم حيث قلنا‏:‏ إن النفس عند السرور تبسط الدم في العروق إلى ظاهر البدن وإنها عند الغم تحصره وبانحصار الحرارة إلى عمق البدن وإلى منشئها من القلب ما يكثر هناك البخار الدخاني ويبرزه إلى ظاهر البدن واشتقاق اسم الغم يدل على معناه لأن القلب يلحقه ما يلحق الشيء الحار إذا غم فيمنع ذلك الحرارة من الانتشار والظهور إلى سطح البدن ولذلك يتنفس الإنسان عند الغم تنفساً شديداً كثيراً لحاجة القلب إلى هواء يخرج عنه الفضلة الدخانية التي فيه ويجلب له هواء آخر صافياً ينمي الحرارة ويروحها كالحال في النار التي من خارج‏.‏

وهاتان الحالتان متلازمتان أعني مزاج القلب وحركة النفس وذلك أنه عرض للنفس انقباض غارت الحرارة من أقطار البدن إلى عمقه‏.‏

وإن اتفق لمزاج البدن غؤور من الحرارة وانحصار إلى ناحية القلب انقبضت النفس لأن أحدهما ملازم للآخر تابع له ولهذا ظن قوم أن النفس مزاج ما وظن آخرون أنها حال تابعة لمزاج البدن‏.‏

والخمر وما يجري مجراها من الأشربة والأدوية التي تبسط الحرارة بلطفها وتنميها وتنشرها إلى ظاهر البدن - يعرض منها السرور والطرب والأدوية التي تبرد البدن وتقبض الحرارة يعرض منها ضد ذلك‏.‏

والمزاج السودوي معه - أبداً - الغم والمزاج الدموي معه - أبداً - السرور‏.‏

وكما أن الأدوية والأغذية يعرض منها للمزاج هذا العارض وتتبعه حركة النفس فكذلك الحديث والألحان وصوت الآلات من الأوتار والمزامير - تحرك النفس أيضاً ويتبع ذلك حركة مزاج البدن لإتصال المزاج بالنفس‏.‏

ولأنهما متلازمان يؤثر أحدهما في الآخر ويتبع فعل أحدهما فعل الآخر‏.‏

  مسألة لم صار الكذاب يصدق كثيراً والصادق يذب نادراً وهل ينتقل إلف الصدق إلى الكذب

وهل يتحول إلف الكذب إلى الصدق أن يستحيل ذلك‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن الصدق والكذب يجريان من النفس مجرى الصحة والمرض لأن الصدق لها صحة ما والكذب مرض ما‏.‏

وأيضاً فإن الصدق من الخبر يجري مجرى الصحة والكذب منه يجري مجرى المرض‏.‏

فكما أن الصحة من الجسم أكثر من المرض لأن المرض إنما يكون في عضو أو عضوين أو ثلاثة فكذلك الصحة في النفس أكثر من المرض لأن المرض إنما يكون منها في قوة أو قوتين وفي خلق أو خلقين‏.‏

وكما أن الجسم لو كثرت أمراض أعضائه أو لو توالت أمراض كثيرة على عضو منه لأبطلته وأعدمته فكذلك النفس لو كثرت امراض قواها أو توالت أمراض كثيرة على قوة واحدة لأهلكتها‏.‏

وإنما الاعتدال الموضوع لكل واحد من الجسم والنفس هو الذي يحفظ عليه وجوده فإن طرق واحداً منهما مرض في بعض الأحوال حتى يخرجه عن اعتداله فإنما يكون ذلك في جزء من الأجزاء وقوة من القوى ثم يكون ذلك زماناً يسيراً ويرجع بعد ذلك إلى الاعتدال الموضوع له‏.‏

فأما إن توهم متوهم أن الأمراض تستولي على جميع أعضاء الجسم حتى لا يبقى منه جزء صحيح أو تتوالى أمراض كثيرة في زمان طويل متصل على عضو واحد فإن ذلك وهم باطل والدليل على ذلك أن القلب لما كان مبدأ الحياة الذي منه تسري الحياة في جميع البدن صار محفوظاً غاية الحفظ من الأمراض لأنه لو عرض له مرض لسرى ذلك المرض في جميع أجزاء البدن سريعاً وعرض منه التلف السريع والموت الوحي‏.‏

وهذه حال النفس في اعتدالها ومرضها‏.‏

ولما كان الكذب يعطيها صورة مشوهة أي صورة الشيء على خلاف ما هو به صار المعطي والمعطي مريضين به ولذلك لا يتكلف أحد ذلك ولا يتعمده إلا لضرورة داعية أو لأنه يظن بذلك الكذب أنه نافع له أيضاً كما ينفع السم الجسم في بعض الأحوال فيتجشم هذه السماجة على استكراه من نفسه وربما تكرر منه ذلك فصار عادة كما تصير سائر القبائح أخلاقاً وعادات وكما تصير المآكل الضارة عادة سيئة لقوم‏.‏

وأيضاً فإن المعتاد للكذب إنما يتم له الكذب إذا خاطه بالصدق وإذا سمع أيضاً منه الصدق وإلا لم يتم له الكذب أيضاً لأن الباطل لا قوام له إلا إذا امتزج بالحق‏.‏

فأما قولك‏:‏ هل ينتقل من اعتاد الصدق على الكذب أو من ألف الكذب إلى الصدق فلولا ان ذلك ممكن ومشاهد في الناس لما وضعت السنن ولا قوم الأحداث ولا عني الناس بتأديب أولادهم ولا عاتب أحد أحداً ولكن هذه الأشياء شائعة في الناس ظاهرة فيهم‏.‏

  مسألة ذكرت - أيدك الله - مسائل

لا تستحق الجواب من آراء العامة وجهالات وقعت لهم مثل قولهم‏:‏ إذا دخل الذباب في ثياب أحدهم يمرض وقولهم‏:‏ دية نملة تمرة وإذا طنت أذن أحدهم قالوا كيت وكيت‏.‏

وهذه المسائل وأشباهها إنما ينبغي أن يهزأ بها ويتملح بإيرادها على طريق النادرة فأما أن تطلب لها أجوبة فما أظن عاقلاً يعترف بها فكيف نجيب عنها والله يغفر لك ويصلحك‏.‏

  مسألة ما الفرق بين العرافة والكهانة والتنجيم والطرق والعيافة والزجر وهل تشارك العرب في هذه الأشياء أمة أخرى أم لا‏؟‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ أما الفرق بين العرافة والكهانة فهو أن العراف يخبر عن الأمور الماضية والكاهن يخبر بالأمور المستقبلة‏.‏

وذلك أن العرافة معرفة الآثار والاستدلال منها على مؤثرها‏.‏

والكهانة هي قوة في النفس تطالع الأمور الكائنة بتخليها عن الحواس‏.‏

وقد تكلمنا عليها في كتابنا الذي سميناه الفوز عند ذكرنا الفرق بين النبي والمتنبي وفي القوة التي يكون بها الوحي وكيفية ذلك فخذه من هناك‏.‏

وأما الفرق بين التنجيم وما يجري مجرى الفأل فظاهر لأن التنجيم صناعة تتعرف بها حركات الأشخاص العالية وتأثيرها في الأشخاص السفلية‏.‏

وهي صناعة طبيعية وإن كان قد حمل أكثر من طاقتها أعني أن المنجم ربما تضمن العلم من جزيئات الأمور ودقائقها ما لا يوصل إليه بهذه الصناعة فيخبر بالكائنات على طريقة تأثير الشيء في مثله وذلك ان الشمس إذا تحركت في دورة واحدة من أدوارها أثرت فيها ضروباً من التأثير في هذا العالم وكذلك كل كوكب من الكواكب له أثر بحركته ودورته وشعاعه الذي يصل إلى عالمنا هذا‏.‏

فالمنجم إنما يقول مثلاً‏:‏ إن السنة الآتية تجتمع فيها دلائل الشمس وزحل فتؤثر في عالمنا هذا أثراً مركباً من طبيعتي هاتين الحركتين فتكون حال الهواء كيت وكيت‏.‏

وكذلك حال الاستقصات الأربع‏.‏

ولما كان الحيوان والنبات مركبين من هذه الطبائع وجب أن يكون كل ما أثر في بسائطها يؤثر أيضاً في المركبات منها‏.‏

والمنجم يخبر بحسب ما يحسب من حركاتها وشعاعاتها الواصل إلينا آثارها حكماً طبيعياً وإن كان يغلط أحياناً بحسب دقة نظره وكثرت الحركات والمناسبات التي تجتمع من جملة الأفلاك والكواكب وقبول ما يقبل من أجزاء عالم الكون والفساد وتلك الآثار مع اختلافها‏.‏

فأما أصحاب الفأل وزجر الطير وطرق الحصى وما أشبه ذلك فإنها ظنون والصدق فيها يكون على طريق الاتفاق والنادر وليس تستند إلى أصل ولا يقوم عليها دليل لأنها ليست طبيعية ولا نفسانية ولا إلهية وإنما هي اختيارات بحسب الأوهام والظنون وهي تكذب كثيراً وتصدق قليلاً كما يعرض ذلك لمن أخبر أن غداً يجىء المطر أو يركب الأمير بغير دليل ولا إقناع بل تكلم بذلك وأرسل الحكم به إرسالاً فربما صح ووافق أن يطايق الحقيقة وفي الأكثر يبطل ولا يصح‏.‏

والأمم تشارك العرب في هذه الأشياء إلا أن العرب تختص من العرافة ومن زجر الطير بأكثر مما في الأمم الأخر‏.‏

  مسألة لم صارت أبواب البحث عن كل شيء موجود أربعة

وهي‏:‏ هل والثاني ما والثالث أي والرابع لم الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ لأن هذه الأشياء الأربعة هي مبادىء جميع الموجودات وعللها الأول‏.‏

والشكوك إنما تعرض في هذه فإذا أحيط بها لم يبق وجه لدخول شك‏.‏

وذلك أن المبدأ الأول في وجود الشيء هو ثبات ذاته أعني هويته التي يبحث عنها بهل فإذا شك إنسان في هوية الشيء أي في وجود ذاته لم يبحث عن شيء آخر من أمره‏.‏

فإذا زال عنه الشك في وجوده وأثبت له ذاتاً وهوية جاز بعد ذلك أن يبحث عن المبدأ الثاني من وجوده وهو صورته أعني نوعه الذي قومه وصار به هو ما هو وهذا هو البحث بما لأن ما هي بحث عن النوع والصورة المقومة‏.‏

فإذا حصل الإنسان في الشيء المحجوب عنه هذين وهما‏:‏ الوجود الأول والهوية التي بحث عنها بهل والوجود الثاني وهو النوعية أعني الصورة المقومة التي بحث عنها بما - جاز أم يبحث عن الشيء الذي يميزه من غيره أعني الفصل وهذا هو المبدأ الثالث لأن الذي يميزه من غيره هو الذي يبحث عنه بأي أعني الفصل الذاتي له‏.‏

فإذا حصل من الشيء المبحوث عنه هذه المبادىء الثلاثة لم يبق في أمره ما يعترضه شك وصح العلم به إلا حال كماله والشيء الذي من أجله وجد وهذه العلة الأخيرة التي تسمى وأرسططاليس هو أول من نبه عليها واستخرجها وذاك أن العلل الثلاث هي كلها خوادم وأسباب لهذه العلة الأخيرة وكأنها كلها إنما وجدت لها ولأجلها‏.‏

وهذه التي يبحث عنها بلم‏.‏

فإذا عرف لم وجد وما غرضه الأخير أعني الذي وجد من اجله - انقطع البحث وحصل العلم التام بالشيء وزالت الشكوك كلها في أمره ولم يبق وجه تتشوقه النفس بالروية فيه والشوق إلى معرفته لأن الإحاطة بجميع علله ومبادئه واقعة حاصلة وليس للشك وجه يتطرق إليه فلذلك صارت البحوث أربعة لا أقل ولا أكثر‏.‏

  مسألة ما المعدوم وكيف البحث عنه

وما فائدة الاختلاف فيه وما الذي أطال المتكلمون الكلام في اسمه ومعناه وهل لقولهم محصول فإني ما رأيت مسألة لا تمكن من نفسها غيرها‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن المعدوم الذي يشير إليه المتكلمون خاصة هو موجود بوجه من الوجوه ولذلك صحت الإشارة إليه والكلام عليه‏.‏

وتلك الصورة له في الوهم هي وجود ماله‏.‏

وكذلك حال كل ما يتوهمونه معدوماً من جسم أو عرض أو حال لا معدومة بل ملحوظة‏.‏

والدليل على ذلك أنا لا نتوهم شيئاً معدوماً إلا نتصور له حالاً قد وجد فيها أو يوجد فيها وصورته تلك قائمة في وهمنا وهي وجود ما‏.‏

فأما المعدوم المطلق الذي لا يستند إلى شخص ما ولا إلى عرض فيه وحال له فإنه لا يضبط بوهم ولا يتكلم عليه ولا تصح مسألة أحد عنه لأنه لا شيء على الإطلاق‏.‏

وإنما تصح المسألة عن شيء ثم تعرض له أحوال إما حاضرة فيه أو منتظرة له ولذلك زعم أكثر المتكلمين أن المعدوم هو شيء وزعم بعضهم أنه لا شيء أعني أنهم لا يسمونه بشيء‏.‏

وإنما عرض لهم هذا الخلاف لأن منهم من لحظه من حيث الوهم ومنهم من لحظة من حيث الحس‏.‏

فمن لحظه في وهمه أثبته شيئاً ومن لحظه من حسه لم يثبته شيئاً‏.‏

والدليل على أن المعدوم الذي يشيرون إليه هو ما ذكرناه وعلى الحال التي وصفناها - أن القوم إذا تعاوروا مسألة المعدوم سألوا عن الجوهر‏:‏ هل هو في العدم وعن السواد هل هو سواد العدم وكذلك جميع أمثلتهم إنما هي من أمور محسوسة إذا صارت غير محسوسة كيف تكون أحوالها ثم يكون جوابهم عن ذلك بما يتصور منه للنفس ويقوم في الوهم فيقولون في السواد الذي حقيقته أنه أثر في البصر من مؤثر يعرض منه القبض‏:‏ إنه في العدم أيضاً كذلك‏.‏

كأنهم يتوهمون أنه يفعل بالبصر وهو معدوم ما يفعله وهو موجود‏.‏

وإنما عرض لهم هذا الوهم لأن القوة التي ترتقي إليها الحواس تقبل شبيهاً بالآثار التي تقبلها‏.‏

أي تحصل لها الصورة مجردة من المادة وهذا هو العلم الحسي‏.‏

لو أمكنهم إثبات صورة عقلية ونفيها لتكلموا على الموجود العقلي والمعدوم العقلي‏.‏

ولو أمكنهم ذلك لجاز أن يسألوا أيضاً عن العدم المطلق‏:‏ هل يشار إليه أم لا يشار إليه ولكن هذه الأمور غابت عنهم‏.‏

وإنما سألت عن مذاهبهم وعما يسألون عنه وقد خرج الجواب ولاح لك بمشيئة الله‏.‏

  مسألة سمعت شيخاً من الأطباء يقول

أنا أفرح ببرء العليل على تدبيري وأسر بذلك جداً‏.‏

قلت له‏:‏ فما تعرف علة ذلك‏.‏

قال‏:‏ لا‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إنما فرح الطبيب بنفسه وصحة علمه وذاك إنه إذا شاهد عليلاً احتاج أن يتعرف أولاً علته حتى يعملها على الصحة والحقيقة‏.‏

فإذا علمها قابلها بضدها من الأدوية والأغذية فيكون ذلك سبباً لبرء العليل‏.‏

فالطبيب حينئذ يكون قد أصاب في معرفة العلة ثم في مقابلتها بالدواء الذي هو ضدها‏.‏

وهذه الإصابة والمعرفة هي الحال التي يلتمسها بعلمه ويسعى لها طول زمان درسه ورويته‏.‏

ومن شان النفس إذا تحركت نحو مطلوب حركة قوية في زمان طويل بشوق شديد ثم ظفرت به فرحت له ولحقها انبساط وسرور عجيب‏.‏

  مسألة ثم قلت - أيدك الله - سئل ابن العميد لم لم يتفق الناس في التعامل على المثامنة بالياقوت والجوهر أو بالنحاس والحديد والرصاص دون الفضة والذهب

وما الذي قصرهم عليهما مع إمكان غيرهما أن يقوم مقامها ويجري مجراهما‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ قد تبين أن الإنسان لا تتم له الحياة بالتفرد لحاجته إلى المعاونات الكبيرة ممن يعد له الأغذية الموافقة والأدوية والكسوة والمنزل والكن وغير ذلك من سائر الأسباب التي بعضها ضرورية في المعيشة وبعضها نافعة في تحسين العيش وتفضيله حتى يكون لذيذاً أو جميلاً أو فاضلاً‏.‏

وليس يجرى الإنسان مجرى سائر الحيوانات التي أزيحت علتها في ضرورات عيشها وفيما تقوم به حياتها بالطبع‏.‏

فالاهتداء إلى الغذاء والرياش وغيرهما من حاجات بدنه ولذلك أمد بالعقل وأعين به ليستخدم به كل شيء ويتوصل بمكانه إلى كل أرب‏.‏

ولما كان التعاون واجباً بالضرورة والاجتماع الكثير طبيعياً في بقاء الواحد - وجب لذلك أن يتمدن الناس أي يجتمعوا ويتوزعوا الأعمال والمهن ليتم من الجميع هذا الشيء المطلوب أعني البقاء والحياة على أفضل ما يمكن‏.‏

ولما فرضنا أن الاجتماع قد وقع والتعاون قد حصل عرض أن النجار الذي يقطع الخشب ويهيئه للحداد والحداد الذي يقطع الحديد ويهيئه للحراث وكذلك كل واحد منهم إذا احتاج إلى صاحبه الذي عاونه قد يقع استغناء صاحبه عنه في ذلك الوقت فإن الحداد إذا احتاج إلى صناعته الحياكة وصاحب الثوب غير محتاج إلى صناعة الحداد وقف التعاون ولم تدر المعاملة وحصل كل واحد على عمله الذي لا يجدي عليه فيما يضطر إليه من حاجات بدنه التي من أجلها وقع التعاون واحتيج لذلك إلى قيم للجماعة ووكيل مشرف على أعمالهم ومهنهم موثوق بأمانته وعدالته ليقبل الجميع أمره ويصير حكمه جائزاً وأمره نافذاً مصدقاً وأمانته صحيحة ليأخذ من كل أحد ويستوفي عليه قدر ما عاون به ويعطيه من معاونة غيره بقسطه من غير حيف‏.‏

وإنما يتم له ذلك بأن يقوم عمل كل واحد منهم ويحصله ثم يعطيه بمقدار تعبه وعمله من عمل الآخر الذي يلتمس معاونته‏.‏

وهذا الفعل أيضاً لا يتم لهذا القيم المستوفي أعمال الناس إلا بأن يأتيه كل من عمل عملاً فيعرضه عليه ويأخذ منه علامة من طابع أو غيره يكون في يده متى عرضه قبل ولم ينس وعرفت صحة دعواه وأعطى به من تعب غيره بمقدار‏.‏

ثم لما نظر في هذا الشيء الذي يحتمل أن يكون بهذه الصفة فلم يمكن أن يجعل من الأشياء الموجودة دائماً ومما يقدر كل أحد على تناوله ومد اليد إليه لئلا يحصله من لا يعمل عملاً ولا يعين أحداً بكده ويتوصل به إلى كد غيره وتعبه فيؤدي إلى خلاف ما دبر لإتمام المدنية والتعاون فوجب أن يكون هذا الطابع من جوهر عزيز الوجود ليمكن حفظه والاحتياط عليه ولا يصل إلا من جهة ذلك القيم إلى مستحقه الذي يعرض عمله وكده ووجب مع ذلك أن يكون مع عزة وجوده غير قابل للفساد من الماء والنار والهواء بنحو ما يمكن ذلك في عالمنا هذا فإنه كان شيئاً مما يبتل بالماء أو يحترق بالنار أو تفسد صورته بعض العناصر الأربع - لم يأمن صاحب التعب الكثير أن يحصله ثم يفسده عنده فيضيع عمله ولا يصدق فيما أعان به وكد فيه فوجب أن يكون هذا الطابع حافظاً لصورته خفيف المحمل مع ذلك مأموناً عليه الفساد مدة طويلة من الطبائع الأربع ومن الفساد الذي يكون بالمهنة أيضاً كالكسر والرض وغيرهما‏.‏

ولما تصفحت الموجودات لم يوجد شيء يجمع هذه الفضائل إلا الأشياء المعدنية ومن بين الأشياء المعدنية الجواهر التي تذوب بالنار وتجمد بالهواء‏.‏

ومن بين هذه الذهب وحده فإنه أبقاها وأعزها وأحفظها لصورته وأسلمها على النار والهواء والماء والأرض وهو مع ذلك سليم على الكسر والقطع والرض يعيد صورة نفسه بالذوب ويحفظها من جميع عوارض الفساد زماناً طويلاً جداً‏.‏

فجعل صورة مقوماً للصنائع وعلامة لهذا القيم ثم احتيط عليه بأن طبع بخاتمه وعلاماته‏.‏

كل ذلك خوفاً من توصل الأشرار إليه ممن يرتفق من عمل غيره ولا يرفق غيره فإن هذا الفعل هو الظلم الذي يرتفع به التعاون ويزول معه النظام ويبطل بسببه الاجتماع والتعايش‏.‏

ثم لما وجد هذا الجوهر جمع هذه الفضائل ويحيط عليه ضروب الاحتياطات من أن يصل إلى غير مستحقه - عرض فيه عارض آخر وهو أن الذي عاون الناس بمعاونة استحق بها شيئاً منه ربما احتاج إلى معاونة يسيرة لا تساوي تعبه الأول ولا تقرب منه ولا تقرب منه‏.‏

مثال أنه ربما تعب الإنسان أما ليحصل لغيره عمل الرحى بمئونة وكلفة وحكمة بليغة‏.‏

فإذا أعطى من هذا الجوهر قيمة عمله ثم احتاج إلى بقل أو خلال أو عرض يسير لا يستطيع أن يعطيه شيئاً من الجوهر الذي عنده ولا أقل القليل منه لأن الجزء اليسير جداً منه أكثر قيمة من العمل الذي يلتمسه من غيره‏.‏

فاحتيج لذلك إلى جوهر آخر تكون فضائله أنقص من الذهب ليصير خليفة له يعمل عمله وإن كان دونه فلم يوجد ما يجمع تلك الفضائل التي حكيناها في الذهب شيء غير الفضة فجعلت نائبة عنه ثم جعل كل واحد من الذهب يساوي عشرة أضعافه من الفضة لأن العشرة نهاية الآحاد فوجب لذلك أن تكون قيمة الواحد من ذلك الجوهر عشرة أمثاله من هذا الجوهر‏.‏

فاما التفاوت الذي وقع بين صرف الدينار والدرهم أعني أن صار منه الواحد بخمسة عشر درهماً ونحوها وهي المسألة التي جعلتها تالية لهذه المسألة - فإنما ذلك لأجل التفاوت في الوزن بين المثقال والدرهم ثم لأجل الغش الذي يكون في أحدهما‏.‏

والأمر محفوظ مع ذلك في أن الواحد من الذهب بإزاء عشرة من الفضة إذا كان كل واحد